بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم أنّ الولاّة لا بُدّ منهم، ولا غنى للنّاس عنهم، والولاية أمرٌ خطير، والوُلاّة في غاية الخطر، فإنّهم إن قاموا بما يلزمهم من حقّ عباده تعبوا ونصبوا، وإن ضيّعوا ذلك هلكوا وعطبوا، وقد قال الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم في الحديث الصّحيح: ''كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته''.
قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لأبي ذرّ الغِفاري، رضي اللّه عنه، لمّا طلب منه أن يولّيه إمارة، فقال صلّى اللّه عليه وسلّم: ''يا أبا ذرّ إنّها أمانة وإنّها يوم القيامة خِزيٌ ونَدامة إلاّ مَن أدّاها بحقّها''. وكما جاء في الحديث الّذي يرويه أصحاب السنن قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: ''اللّهمّ مَن ولي من أمر أمّتي شيئًا فشُقّ عليهم فاشْقُق عليه، ومَن وليَ من أمر أمّتي شيئًا فرَفِقَ بهم فارفُق به''. وقال عليه الصّلاة والسّلام: ''ما من وال على النّاس إلاّ جيء به يوم القيامة مغلولة يداهُ إلى عُنقه، فكد عدلُه أو أوبقه جَورَهُ''.
والوعيد الوارد في حقّ مَن ولّي أمر النّاس، ثمّ لم يأخذ بالعدل والإنصاف، ويجتنب الظلم والجَوْرَ، شديد هائل، لذلك زهِد فيه المتّقون، وفرَّ منه المشمِّرون الّذين هم من خشية ربّهم مشفقون، ومن ابتُليَ منهم بذلك ولم يجد بُدَّا ممّا هناك، كان على غاية من الخوف والإشفاق والتحفُّظ والاحتياط والاحتراز، حتّى قال عمر بن الخطاب الفاروق رضي اللّه عنه- مع ما كان عليه من كمال العدل ونهاية الاحتياط والاحتراز- ''إن نِمتُ باللّيل ضيّعتُ نفسي، وإن نِمتُ بالنّهار أمور المسلمين، فكيف لي بالنّوم بين هاتين''؟!
وهذا سيّدنا عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه لمّا كان خليفة المسلمين، إذا اجتمع في بيت مال المسلمين المالُ دعاهم، ففرَّقه عليهم حتّى لا يبقى منه درهم، ثمّ يأمُر بكنسه ونضحه بالماء ويُصلّي فيه ويقول كما يشهد عليّ بجمع المال فيه يشهد لي بالصّلاة فيه، لذا على الحاكم أن يكون شفيقًا رفيقًا في موضع الرّفق، ومع من يحسن معه ذلك من الضعفاء والمساكين والمظلومين وذوي الحاجات، وأن يكون فيه شيء من الشدّة والغلظة على الظّالمين والمتجبّرين وأهل البغي والتعدّي حتّى تقوم له الهيبة في صدورهم، وصدق الشافعي رحمه اللّه لمّا قال: ''سياسة النّاس أشدّ من سياسة الدّواب، وذلك بيّنٌ لا خفاء فيه''.
وعلى الحاكم العادل أن لا يوسّط بينه وبين رعيته، ولا يستعمل عليهم إلاّ أهل الخير والدّين والأمانة والصّيانة، فإنّ السلطان بوسائطه وعماله الّذين يكونون بينه وبين النّاس، فمهما كانوا أخيارًا وأُمناء بلّغوا عنه وبلّغوا إليه الأمور على ما هي عليه من غير تغيير ولا زيادة، ومهما كانوا أشرارًا مفسدين خونة بلّغوا إليه الأمور حسب أهوائهم، ووفق أغراضهم الفاسدة، فتلتبس بسبب ذلك الأمور، وتضطرب الأحوال، ويُنسب ما يصدر منهم إلى السلطان، ممّا يستحسن أو يستقبح. اللّهمّ أصلح وُلاّة الأمر وقيّض لهم البطانة الصّالحة الّتي تأخذهم إلى سُبل الرشاد.